٥٠ عاماً على رحيل موليير الشرق أبو السعود الإبياري

بقلم : محمد حبوشة


خمسون عاما مضت على وفاة “أسطورة الفن المصري” أبو السعود الإبياري (17 مارس 1969)، والذي يحار كتاب التاريخ الفني المصري المعاصر والحديث حتى وقتنا الحالي على وضع توصيف دقيق لتلك الموهبة الفذة، حيث كتب “الإبياري” المسرح والسينما والأغنية والمنولوج والأوبريت، جنبا إلى جنب مع عديد من الكتابات الصحفية الفريدة، والتي ظلت علامات بارزة برقي أسلوبها وبلاغتها وسخريتها الممزوجة بالفكاهة الطازجة.

إنه حقا صانع البهجة المصرية الحقيقي، والباعث على الضحك العفوي الذي لايغالبه فيه أحد حتى الآن، ومازال حتى يومنا الحالي يملك ناصية الكوميديا التي تجلب السعادة عبر مفردات لاتخدش الحياء، بقدر ما تنعش الذاكرة الحية التواقة للمتعة العفوية في قلب القرن الواحد وعشرين، وذلك على جناح فن الأبيض والأسود دونما أية مكسبات لونية أو رتوش مزخرفة، ومن هنا يبقى “أبو السعود الإبياري” هو الكاتب والسيناريست والمسرحي وكاتب الأغنية القادر على مخاطبة العقل الجمعي بنسق أخلاقي لايفسد المشاهد الأكثر إضحاكا، بل يحيلها فلسفة طيعة تظل سارية مع مياه النيل الذي يجرى في عروق المصريين بمزيج عذب من الحكمة والجبروت على تحمل مصاعب الحياة القاسية.

فمهما بلغت بك النوائب وتعقدت الأيام، واشتدت الأزمات، فإن مشاهدتك لواحد من أفلام الراحل العظيم “إسماعيل ياسين” – الذي جعله الإبياري “أيقونة الضحك المصري” الذي لاتنتهي صلاحيتها مع مرور الأيام – يمكنك أن تضحك من القلب، وتستدعي كل مواطن القوة لاجتياز أعتى الصعاب، وتحيل المستحيل دروبا من السعادة والبهجة والعيش في سلام بصفاء روحي قادم من قريحة هذا الكاتب الكوميديان المبهر لغة وأسلوبا ومفارقات مذهلة مستمدة من نبض الشارع.

وعلى قدر ماينتابك من هذا الشعور اللذيذ بالبهجة والسعادة من روح وخيال “أبو السعود” الإبداعي، فإنه حتما سينتابك شعور بالألم جراء ما عايش هذا الرجل من فصول الإنكار ومحاولات محوه من الذاكرة – حيا وميتا – على جناح تزييف متعمد لتاريخ فكاهي وفني رفيع، قل الزمان أن يجود بمثله، وهو مايبدو لنا واضحا من أوراق سيرته التي ماتزال تسكن وجدان غالبية المصريين، رغم كسر أنفه في عز عليائه الفني الذي ظل وما يزال يهدد عروش كثيرين ممن حاربوه بلا هوادة، أحياء كانوا أو مقبورين.

ولد الكاتب والسيناريست الكبير “أبوالسعود الإبياري” في عام 1911 بالقاهرة، وكتب الزجل وهو طفل في مجلة “الأولاد” وأعجب بالكاتب الكبير “بديع خيري” كزجال ومؤلف مسرحي وتتبع خطاه وشجعه بديع، وكان أول مونولوج يكتبه هو “بوريه من الستات” للمونولوجست “سيد سليمان”، وحقق نجاحاً كبيرا، كما كتب اسكتشات فكاهية لفرقة “بديعة مصابني”، وكانت أول رواية له هى “أوعى تتكلم” عام 1933م.

انطلق “أبوالسعود الإبياري” قوياً متدفقاً غزير الإنتاج يستمد قوة إبداعاته من المفردات اللغوية التي يرددها الناس في الشوارع والحارات والمقاهي، وكتب للسينما أشهر وأجمل أفلامها الكوميدية، وأتقن تصوير الشخصيات المصرية الأصيلة، وكتب الحوار السلس الذي اشتهر به منذ فيلم “لو كنت غني” للفنان بشارة واكيم عام 1942م، ومن أشهر أفلامه الكوميدية “الزوجة 13″، “الزوجة السابعة”، “أنت حبيبي”، “تعالى سلم”، “نشالة هانم”، “عفريتة هانم”، “صغيرة على الحب”، “جناب السفير”، “هارب من الزواج”، “شباب مجنون جداً”، “طاقية الإخفاء”، “سكر هانم”، “المليونير”، “حواء و القرد”، “البحث عن فضيحة”.

نعم استمد الإبياري من قلب الشارع ونبض المجتمع إبداعه الفني الغني بالأفكار والموضوعات الاجتماعية بحس كوميدي فطري لا يخلو من فلسفة عميقة، لذا كان حريصا طول الوقت على الاحتكاك بالجماهير بكل أطيافها وأشكالها، فكان يجلس مع الباشا والبيك والموظف، ويصاحب ماسح الأحذية، ومن ثم تجد الممثل فى أعماله مختلف عن عمله مع أي مؤلف آخر، ومن مميزاته أنه يملك القدرة على تحويل أي فنان إلى ممثل كوميدي، وتشهد على ذلك أفلامه مع فريد الأطرش مثل “عايزه اتجوز، تعال سلم، ما تقولش لحد، ولحن حبي، وأنت حبيبي”،ومع محمد فوزي” فاطمة وماريكا وراشيل، ويا حلاوة الحب، وفاعل خير”، حتى عبدالحليم حافظ جعله ممثلا كوميا في فيلمي “فتى أحلامي وليالي الحب”.

كان “الإبياري” يجد نفسه في الفيلم الكوميدي أكثر من الفيلم الدرامي، وكان صاحب أول تصنيف للكوميديا، فكان يكتب فيلم كوميدي إجتماعي، أو إنساني، أو بوليسي، أو غنائي، ورغم هذا كتب أفلام تراجيدية هامة مثل “معلش يا زهر، اليتيمتان، ظلموني الناس، ست البيت، والأخير هذا شارك في المسابقة الرسمية لـ “مهرجان كان”، ولعل ميله إلى الفيلم الكوميدي هو الذي ربطه بإسماعيل ياسين بعلاقة صداقة بينهما بدأت عام 1942، حيث كتب لإسماعيل أغاني الفيلم القصير ” نمرة6″، تأليف وإخراج صلاح أبوسيف، بعدها كتب له دورا صغيرة في أفلام “أما جنان، رجاء، تاكسي حنطور،البني آدم،القرش الأبيض”،إلى أن قدمه كبطل مطلق في فيلمي “البطل، والمليونير”.

في عام 1943م، اتجه أبو السعود إلى مكتب المنتجة والممثلة “آسيا داغر” ، اللبنانية الأصل، طالباً منها أن تتيح له فرصة كتابة فيلم سينمائي، غير أن المنتجة اندهشت من طلبه، فهو كاتب مسرحي وزجال ولم يكتب السيناريو أو الحوار من قبل، ولكنها لم ترفض، بل قالت له: “اكتب ودعنا نقرأ ونحكم”، وبالفعل كتب “الإبياري” أول أفلامه السينمائية بعنوان “لو كنت غني”، ونال إعجاب “آسيا”، وقررت إنتاجه على الفور، ليخرج إلى النور في العام نفسه، ببطولة “بشارة واكيم وحسين الجزاريلي” وإخراج هنري بركات.

في العام التالي قدم ثلاثة أفلام دفعة واحدة: “أما جنان، وطاقية الإخفاء، وشارع محمد علي”، وكان هذا الأخير سبباً في تعرضه لمحاولة اغتيال فاشلة من أحد أبناء هذا الشارع لاعتقاد الجاني أن الكاتب كشف عن خبايا وأسرار شارعه، ثم بعدها بعام واحد، كتب 10 أفلام كوميدية ليكون هذا الإنتاج هو متوسط إنتاجه الفني كل سنة، وهنا ربما يتساءل القراء عن هذه الغزارة الإنتاجية وكيفية كتابة أكثر من عشرة أفلام سنويا، وربما تحمل قصة كتابة فيلم “صغيرة على الحب” الذي أنتج عام 1966م، من بطولة سعاد حسني ورشدي أباظة، الإجابة على كثير من الأسئلة الحائرة التي تدور في ذهن الكثيرين من عشاق فن “أبو السعود الإبياري، والذي قدم للسينما أكثر من 500 فيلم، أي ما يعادل 17% من مجمل إنتاج السينما المصرية، وله أكثر من ألف أغنية ومنولوج وأوبريت.

كما كتب الإبياري العديد من المسرحيات من أشهرها “حبيبي كوكو”، “عريس تحت التمرين”، “الست عايزة كدة”، “صاحبة الجلالة”، “من كل بيت حكاية”، “خميس الحادي عشر”، “جوزي بيختشي”، “سهرة في الكراكون”، “عفريت خطيبي”، “ركن المرأة”، “الكورة مع بلبل”، “أنا عايزة مليونير”، “مراتي من بورسعيد”، “روحي فيك”، “كل الرجالة كدة”، “فلوس وحب وزواج”، “حرامي لأول مرة”، “جوزي كداب”، “عمارة بندق”، “مراتي قمر صناعي”، “كنتي فين ليلة إمبارح”، “يا الدفع يا الحبس”، “ضميري واخد أجازة”، “ليلة دخلتي”، “عازب إلى الأبد”، “الحب لما يفرقع”، “عقول الستات”، “يا قاتل يا مقتول”، “المجانين في نعيم”، “عمتي فتافيت السكر”، “منافق للإيجار”، “سنة تانية جواز”، “حماتي في التلفزيون”، “الحبيب المضروب”، وغيرها الكثير من المسرحيات المتميزة.

يعتبر أبو السعود من القلائل الذين استطاعوا أن يجمعوا بين الغزارة والجودة الفنية، وأبرز دليل على ذلك أن الشخوص التي خلقها لا تزال حاضرة حتى اليوم بآفهياتها الشهيرة التى لا نكف عن ترديدها حتى اليوم، ويحسب له أيضاً أنه هو من دعم الفنانة “لبلبة” وأطلق عليها هذا الاسم، كما أنه كتب فيلم “البحث عن فضيحة” أول بطولة مطلقة للزعيم “عادل إمام”، ولهذا الفيلم حكاية، فبعد سنوات من العمل لعادل إمام قرر أن يخوض تجربة البطولة، فطلب من نجوم السينما وقتها أن يشاركوه في الفيلم كنوع من الدعم، ولم يرفض أحد طلبه، وبذلك كان هذا الفيلم صاحب أكبر عدد من النجوم على الأفيش، وهنا كانت تكمن المعضلة: أي قصة ممكن أن تستوعب هذا العدد من الفنانين.

لُقِّب “أبوالسعود الإبياري” بـ “أستاذ الكوميديا” و “موليير الشرق” و”النهر المتدفق” و”جوكر الأفلام” و”منجم الذهب” و”الجبل الضاحك”، وأصبح أكبر مؤلف له عدد من أفلام السينما المصرية، وظل متدفقا في عطائه الفني إلى يوم 17 مارس 1969م حيث توفى هذا المبدع تاركا مكتبة زاخرة بالأعمال المتميزة، وعلى الرغم من الحرب الشرسة التي واجهها حيا وميتا، وهذه المواقف التي تتسم بالجحود كانت من بداية عام 1961 عندما اقتحم تيار الشيوعيين واليساريين المجال الثقافي والفني، وادعوا أنهم مؤلفين وشعراء، وطلبوا منه الانضمام لهم لكنه رفض، لأنه لا يريد أن يصبح موظفا، فكانت النتيجة تأميم مسرحه الذى أسسه مع شريكه إسماعيل ياسين، وضمه لمسارح الدولة، وفرض حصارا عليه في السينما، حيث لم يكتب أي أفلام للقطاع العام باستثناء قصة وحوار فيلم “صغيرة على الحب”، وقصة “شقة مفروشة”، وظلت الأيادي الخبيثة تطارده حتى رفضوا أن يكتب لهذا الفيلم السيناريو والحوار.

ولم يجد الإبياري وقتها غير التعاون مع الشركات الخاصة، ولم يكتفوا بذلك فقد قام المسئولين في التليفزيون بمسح 41 مسرحية عمدا من تأليفه ، تم تسجيلها تليفزيونيا على الرغم من أنها تضم عمالقة التمثيل في مصر، عقابا له على عدم الإنضمام لكتيبة “المطبلتية”، ولعل أكثر ما أثر سلبيا على معنوياته وقتها أنه على وفرة وتميز ورقي فنه الكوميدي الأخلاقي، الذي لايضاهيه فن مثله حتى الآن، وصفه بعضهم بالجهل، وهل من عاقل يمكن أن يصدق هذا الوصف على الرجل الذى كان صديقا لنجيب محفوظ وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي، وغيرهم من رواد الفكر والأدب، وهل من مختل عقلي يمكن أن يمحو من الذاكرة الجمعية للأمة المصرية بأثرها مسيرة رجل كتب 500 فيلما، و250 مسرحية، ومئات من الأغنيات سواء العاطفية أو الدينية أو الوطنية أو الشعبية، ولحن له كل ملحنيين مصر بلا استثناء!، وحتى عندما أعلنوا ذات يوم تكريمه في مهرجان للسينما عبثت الخفافيش كعادتها ، وأسقط إسمه ليلة التكريم!!!، ومع كل ذلك يبقى فيض محبة الجمهور في مصر والعالم العربي من فرط موهبته كشلال هادر في حياتنا الفنية المصرية والعربية، فعندما يعرض فيلم له تجد صداه في قلب الشارع في اليوم التالي لعرضه، فليس من السهل أن تستطيع أن تبعث البهجة في نفوس الآخرين، كما كان يفعل الإبياري مع جمهوره، ومن هنا يصبح من غير المنصف أن يكون واحدا من أكبر الشخصيات التي شاركت في صنع البهجة للجمهور من خلال أعماله العملاقة، ولم يعرفه كثيرون خاصة من شباب الجيل الحالي.

وأخيرا أختتم بقول الأديب الكبير الراحل “خيري شلبي” في وصفه لـ “أبو السعود الإبياري حيث قال: “لا أظنني مغاليا إذا قلت إن الإبياري صرح من صروح الإبداع العربي، مصري الهوية، لايقل أهمية عن “طه حسين والعقاد وسلامة موسي وأحمد شوقي وسيد درويش” وكل عظماء مصر في تاريخنا المعاصر، ولربما كان تأثيره في الوعي العام وتهذيب السلوك وتنوير الوجدان يوازي تأثير جميع من عاصروه من المبدعين في المسرح والسينما والغناء”.. رحم الله “أبو السعود الإبياري” الذى أسعد الملايين على مدى حوالى قرن من الزمان، ومازال نهر سعادته يغمر أيامنا!.

المصدر : اليوم السابع (مصر)